كثيرا ما يتقدم إلى الاستشارة الطبية شخص يعاني من شكاوى صحية مثل الأرق أو الصداع التي تظهر وتختفي لسنوات طويلة، تشتد حينا وتكون خفيفة حينا آخر. ويبحث الأطباء عن أسباب تلك الشكاوى دون جدوى ولا نتيجة. وفي كثير من الأحيان يصاحبها آلام أو شكاوى جسدية مختلفة. هذه الشكاوى قد تكون آلاما أو اضطرابات في الجهاز الهضمي مثل الإمساك أو فقدان الشهية، وقد تكون إجهادا وتسارعا لدقات القلب، وقد تكون آلاما في الصدر أو المفاصل والأطراف، لكن قاسمها المشترك هو أنه لا يظهر لها سبب عضوي، ولا ينفع معها كثرة العلاجات وتنوعها. وهذا ما يزيد من حيرة الأطباء، كما يزيد من قلق المصاب، لأنه يتوهم أنه مصاب بمرض عضوي خطير أو غير قابل للعلاج. ولذلك فإن المريض يقوم بزيارة العديد من الأطباء من تخصصات مختلفة، ويجري مختلف الفحوص والتحليلات المخبرية والإشعاعية، البسيطة منها والمعقدة، لكن دون جدوى. الملاحظ أيضا أن حياة هؤلاء المرضى هي في الغالب عادية، لا يعانون من مشاكل أسرية أو مهنية أو ضغوط نفسية ذات بال.
وفي نموذج مغاير قد تظهر على فرد معروف باتزانه تغيرات في السلوك والتصرفات، مثل القلق والتوتر دون سبب واضح، ويبدأ في الانعزال، وهناك من يبدأ شرب الخمر أو إدمان تناول الأدوية المهدئة دون مقدمات. يحار المريض نفسه في تفسير سلوكه ويلجأ إلى الأسرة والأصدقاء، وقد يلجأ إلى الأطباء، ويكثر التحليلات المخبرية، فلا يجد في كل ذلك تفسيرا واضحا ولا حلا ناجعا. ومما يزيد من حيرته أن جميع الأطباء يؤكدون له أنه لا يعاني من أي مرض عضوي قابل للتشخيص. يؤدي هذا الوضع بالمريض إلى الإكثار من العلاجات مما يرهقه بالاستنزاف المادي وتضييع الوقت من غير نتيجة.
هذه الحالات ومثيلاتها يصف الأطباء أصحابها بأنهم قد يكونون مصابين بالاكتئاب المقنع، الذي هو نوع خاص من أنواع الاكتئاب. وهذه التسمية ليست من المصطلحات العلمية الواردة في التشخيصات المعتمدة للأمراض النفسية، إنما هو مصطلح يتداوله بعض المختصين، ويقصد به أن المريض لديه سمات ومؤشرات قوية تدل على إصابته بالاكتئاب النفسي ولكن لا تظهر عليه الأعراض الاكتئابية التي تصيب المزاج عادة. فيغيب عنها في العموم الحزن والإحساس بالكدر واليأس والتشاؤم، ويغيب الشعور بالذنب واحتقار الذات، حتى إن بعض المرضى قد يبالغون في التبسم والضحك، مما قد يكون حيلة نفسية دفاعية ضد الشعور في العمق بالاكتئاب. وفي المقابل تحضر الأعراض العضوية أو النفسية المتنوعة، وتظهر في مقدمة الحالة المرضية. وكثيرا ما يسجل هذا النوع من الاكتئاب لدى كبار السن الذين تظهر الأعراض الاكتئابية لديهم في صورة الأعراض الجسدية.
وإنما أطلق المتخصصون على هذه الحالة اسم “الاكتئاب المقنع”، لأنه بدلا من أن يكون اكتئابا باديا وظاهرا، فإنه يتقنع بأعراض جسدية مختلفة، كأنه يلبس قناعا يخفي حقيقته، حتى يظهر وكأنه مرض آخر مختلف. وهذا يجعل المصاب لا يفكر في استشارة الطبيب النفسي، ويجعل أغلب الأطباء الذين يزورهم لا يفكرون فيه أيضا.
وتبين الإحصائيات أن 20% من زوار العيادات الطبية بشكل عام يعانون من الاكتئاب، وأن نصفهم يشكون من أعراض أو آلام جسدية متنوعة ومتفرقة، عادة ما تكون غامضة وغير محددة. وهؤلاء يشكون في الحقيقة من اكتئاب يتستر وراء تلك الأعراض ويتقنع بها. وهم عمليا لا يقدمون الشكوى من اكتئابهم، ولكن يقدمونها من تلك الآلام الجسدية. وهناك صعوبة في إقناعهم بأن ما يعانون منه يعود إلى إصابة بمرض نفسي. وهو ما يجعلهم يضيعون وقتا طويلا من عمرهم قد يمتد إلى سنوات طويلة، في البحث عن العلاج دون طائل. وذلك على الرغم من أن مرض الاكتئاب المقنع، مرض معروف لدى المتخصصين، وعلاجه في الغالب سهل ميسور.
الخلاصة التي نريد الانتهاء إليها، هي أن الوعي باحتمال أن تكون المعاناة العضوية قناعا يخبئ وراءه اكتئابا كامنا وقابلا للعلاج أمر مهم، لأنه سيجعل الكثيرين يسرعون إلى المعالجة الطبية النفسية المتخصصة في الوقت المناسب.