العثماني: الحركات الإسلامية لم تنفذ إلى نُخَب المال والأعمال والإعلام

يرصد الدكتور سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة المغربية السابق الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية، نقط قوة وضعف التيارات ذات المرجعية الإسلامية؛ فقوتها تكمن ـ بحسبه ـ في ما سماه “الديمقراطية الداخلية”، أما نقط الضعف فتتجسد في عدم نفوذ هذه الحركات إلى مجالات القوة الصلبة، وهي نخبة المال والأعمال والإعلام.

ويرى العثماني، في حوار مع هسبريس، أن التيارات الإسلامية لما كانت في صفوف المعارضة كانت تتفاعل وتنتقد وتقترح، لكن عند المشاركة في الحكومة باتت أمام إكراهات قللت من هوامش تحركها وفق السياقات والظروف.

ويؤكد العثماني، وهو طبيب نفسي وفقيه أيضا له مؤلفات فكرية وإسلامية، أن تجديد الخطاب الديني يجب ألّا يمس ثوابت الدين، مضيفا أن التطرف الديني ليس بالضرورة لصيقا بالإسلام ومن ينتسبون إليه، بل كل الاتجاهات والمذاهب والأديان قد تعرف أشكالا من التطرف.

 

بين المعارضة والحكم

في البداية، وضع العثماني فوارق بين موقعي حزبه العدالة والتنمية في المعارضة وفي تدبير الشأن العام، وقال إن هذا الحزب مر بالفعل بمرحلة المعارضة، ثم أمضى عشر سنوات من التسيير الحكومي، وكانت بصمته إيجابية واضحة في العديد من الملفات السياسية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية.

وأضاف شارحا بأن “الفرق بين موقعي المعارضة والتسيير، أن المعارضة هي بالأساس تقييم للسياسات العمومية وتعبير عن المقترحات والمواقف المختلفة، بينما موقع التسيير الحكومي هو مساهمة في إدارة مؤسسات الدولة والإدارة العمومية بحسب ما تسمح به معطيات الهندسة الدستورية من صلاحيات واختصاصات، والمساهمة في تدبير الشأن العام الوطني والمحلي بما يكفل للمواطن عيشا كريما ويضمن له حقه العادل في الإفادة من خيرات الوطن وثرواته. وبالتالي، فإن هامش الفعل والتأثير في المعارضة أقل بكثير منه في موقع التسيير”.

تراجع الإسلاميين

وجوابا على سؤال يتعلق بتفسير انتعاش حركات وأحزاب “الإسلام السياسي” خلال فترة ما سمي بـ”الربيع العربي”، ثم تراجعها وخروجها سريعا من دائرة الحكم في عدد من البلدان العربية، رد العثماني بأن “المناخ الدولي كله أضحى مناخا تراجعيا على المستوى الديمقراطي”.

وشرح بأن “الديمقراطيات العريقة تواجه أزمة تتجلى أساسا في ازدياد العزوف الانتخابي وتراجع الثقة في المؤسسات والصعوبات المتصاعدة في تشكيل الحكومات وتراجع دور الأحزاب السياسية في التأطير، وغيره من المظاهر التي أضحت موضوع دراسة العلوم السياسية”.

 

“هذه الأزمة، التي توصف في بعض الأدبيات بالعميقة، لها تأثير في دول الجنوب”، يورد العثماني، مضيفا أن “هناك اليوم تراجعات ديمقراطية وحقوقية واضحة تختلف من دولة لأخرى، لكن ذلك شبه عام في بلداننا. وبالتالي، فإن التراجع السياسي يهم الوضع العام، كما يعني جميع التيارات أو الأحزاب الإصلاحية بمختلف تلاوينها”.

ووفق المسؤول المغربي السابق، فإن الادعاء بأن “التراجع يهم فقط الأحزاب أو التيارات ذات المرجعية الإسلامية نظر غير سديد للتحولات والتطورات”، متابعا بأن “هذه الأحزاب والتيارات تنمو وتتقدم أكثر في المجتمعات والسياقات المتميزة بمستوى معقول من الممارسة الديمقراطية والانفتاح السياسي، أما في سياق التراجعات فليست وحدها الخاسر، بل الأوطان والشعوب بالدرجة الأولى”.

ممارسة الإسلاميين “التقية السياسية”

وردا على سؤال بشأن أبرز نقط قوة وضعف الحركات الإسلامية، أجاب العثماني بأنه “من الصعب حصر نقاط القوة والضعف، كما أن المرء من الصعب عليه تقييم تجربة ينتمي إليها”، ليستدرك بأنه “إجمالا، يمكن القول إن أبرز نقطة قوة لدى التيارات ذات المرجعية الإسلامية، هو ديمقراطيتها الداخلية وحزمة القيم التي تؤطر عملها، وأبرز نقطة ضعف هي عدم نفوذ هذه التيارات إلى مجالات القوة الصلبة، وهي نخبة المال والأعمال والإعلام”.

هل يمارس الإسلاميون نوعا من “التقية السياسية” لكونهم يتدخلون ويشعلون السجالات في ملفات أخلاقية، مثل حرية العلاقات والحق في الإجهاض وغيره، عندما يكونون في موقف المعارضة، لكن عندما يشاركون في الحكم يلجؤون إلى الصمت حيال هذه الملفات؟

 

سؤال آخر أجاب عنه العثماني بالقول إن كثيرا من هذه التيارات كانت في موقع المعارضة، وهو ما كان يوفر هامش تحرك أكثر، ووظيفة المعارضة الأساس هي التفاعل والنقد والاقتراح، أما المشاركة الحكومية فلها إكراهات وهامش تحرك يصغر ويكبر حسب السياقات والظروف وغيرها، ولها أيضا أولوياتها.

وزاد رئيس الحكومة السابق بأن “التعبير عن الرأي هو أبرز آليات المعارضة، بينما تصبح أبرز آليات التأثير في التسيير هي الفعل. لذلك، فإن المواقف قد تتطور أحيانا، لكن الذي يتغير دائما هو آليات التأثير والتدخل، ولكل مقام مقال”.

وبحسب المتحدث ذاته، فإن موقف حزبه العدالة والتنمية من القضايا المذكورة آنفا لم يتغير بين حقبة المعارضة وفترة تسيير الحكومة، بل بقي كما هو على العموم، مشيرا إلى أن “تلك المواقف موثقة ومنشورة في المرحلتين”، على حد قوله.

سوء فهم آيات القتال

وبعيدا عن السياسة قريبا من الاهتمامات الفقهية للرجل، وجوابا على سؤال يهم الربط بين سوء فهم آيات القتال والجهاد في القرآن الكريم وبين التطرف الديني والإرهاب، شدد العثماني على أن “الأمة اتفقت على أن الجهاد للتعريف بدين الإسلام ونشر تعاليمه واجب على الأمة، والجهاد مصطلح إسلامي نبيل له مفهومه الواسع، فهو يطلق على مجاهدة النفس والهوى والشيطان، ويطلق على الجهاد بالبيان والحجة، ونشر العلم الصحيح والمفاهيم السليمة، ويطلق على قتال العدو الذي يُراد به دفعُ العدوان وردعُ الطغيان”.

واستدرك المتحدث ذاته بأن “سوء فهم لآيات القرآن الكريم حول القتال ساد، وكان ذلك من مداخل التشويش على الإسلام قديما وحديثا، ومن مداخل التشدد والتطرف ونشوء جماعات العنف، مما أدى إلى سفك دماء المسلمين في كثير من المواقف”، مسجلا أن “تدقيق الفهم في الآيات القرآنية وفق بناء متكامل يأخذ بعين الاعتبار المقصود التشريعي والحكمة الإسلامية يعد أمرا ضروريا”.

هذا التدقيق في فهم آيات القرآن، وفق العثماني، ينبني على أربعة مبادئ أساسية هي: لا إكراه في الدين، وكون السلم والتعاون هو أصل علاقة المسلمين بغيرهم، وكون علة الحرب في الإسلام هي رد العدوان، وأخيرا مقصد الجهاد في الإسلام هو حماية حرية الدين.

 

وخلص صاحب مؤلف “الدين والسياسية تمييز لا فصل” إلى أن “جعل الأصل في التعامل مع الأمم الأخرى هو الحرب، يعد بمثابة مدخل كبير من مداخل التشدد”، مبرزا أن تصحيح النظرة على هذا المستوى هو مما يجب أن يشتغل عليه العلماء تحقيقا للمراد الشرعي في علاقات المسلمين بغيرهم”.

انتهاء زمان آيات قرآنية

وتعليقا على الجدل الذي أثارته تصريحاته في ندوة علمية بشأن انتهاء زمان آيات من القرآن، أفاد السياسي الفقيه بأن عددا من الأمور التي أثيرت بخصوص مشاركته العلمية تلك كانت مشوبة بالتسرع وعدم الاطلاع الكافي على الدراسة التي كانت مفصلة لوجهة نظره، موضحا أن “القول بأن هناك آيات خاصة بأقوام أو بزمن الرسول صلى الله عليه وسلم، هو مما صرح به المفسرون وأهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم”.

وشرح بأن “هذا النوع من الآيات الواردة بصيغة العموم، لكن أريد بها الخصوص، هي المقصودة هنا بالآيات الخاصة، ويسميها بعض العلماء آيات منسوخة، والنسخ هنا ليس بالمعنى الأصولي المتأخر ولكن بمعنى موسع، ومما أوقع البعض في الخطأ، في رأيي، عدم الاطلاع على اجتهادات هؤلاء الأئمة”.

واستدل المتحدث بالآية الكريمة الخامسة من سورة التوبة، وهي قوله تعالى: “فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا له كلَّ مرصد”، موردا أن سياقها يدل على أن المقصود هنا مشركو العرب الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة، وعذبوا المؤمنين وقتلوا منهم، وسجنوا كثيرين فقط لأنهم أسلموا. وبعد الهجرة صادروا أموال المسلمين واستولوا على ممتلكاتهم، وبعد ذلك شنوا عليهم حربا لاستئصالهم، ثم كلما عاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم نكثوا عهدهم، فهؤلاء هم المعنيون في الآية.

وذهب المتحدث إلى أن “الادعاء بأن آية قرآنية خاصة بقوم أو ظرف يجب ألّا يخضع للتشهي والهوى، وإنما للأدلة الشرعية ولأقوال أهل العلم المعتبرين، وفي المقابل يجب الوعي بأن جعل آيات خاصة بظرف أو زمان أو أقوام عامة للأمة كلها زيادة في الدين، وحمل كلام الله تعالى على غير وجهه الصحيح، وهو ما يجب الحذر منه أيضا”.

تجديد الخطاب الديني

وبالتعريج على نقطة أسس تجديد الخطاب الديني، أكد القيادي الإسلامي أن تجديد الخطاب الديني موضوع كتب فيه العديد من العلماء والمفكرين، قديما وحديثا، ولا يمكن أن يكون التجديد إلا عن علم، فمن لم يحز حظا من العلم بالشرع سيكون يخطئ أكثر مما يصيب، وهذا هو الشرط الأول.

أما الشرط الثاني، يردف العثماني، فهو “العلم بأقوال أهل العلم وباختلافهم، فأحيانا تكون المسألة فيها خلاف بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بين تابعيهم أو بين أئمة المذاهب، لكن من لم يعلم الخلاف تعصب لرأي كأنه الحق أو الصواب وحده، وهذا مما نواجهه كثيرا في الممارسة اليومية”.

 

والشرط الثالث ـ وفق المتحدث ـ هو “العلم بمعطيات العلوم المعاصرة في الموضوع المعني، فكثيرون يتحدثون في مواضيع استجدت فيها معطيات وتغيرت فيها المفاهيم، بناء على معطيات قرون مضت أو بناء على معطيات معاصرة مبتورة”.

وانتهى الكلام بالعثماني إلى التأكيد على أن “التجديد لا يجب أن يمس ثوابت الدين، لكننا أحيانا نكون أمام خطاب يعتبر كل جزئية مرتبطة بواقع عصر الرسالة ثابتا يجب الجمود عليه، وهذا مجال واسع للنظر والاجتهاد يحتاج كثيرا من التواضع وكثيرا من الإنصات لكل الآراء وكثيرا من الجرأة أيضا”.

مواجهة التطرف الديني

وبخصوص ملف التطرف الديني ومدى كفاية مواجهته بالمقاربة الأمنية، رد العثماني بأن مواجهة التطرف، أيا كان نوعه، ليس مهمة سهلة، كما أن التطرف ليس بالضرورة لصيقا بالإسلام ومن ينتسبون إليه، بل كل الاتجاهات والمذاهب والأديان قد تعرف أشكالا من التطرف، ومن أمثلته اليوم اليمين المتطرف والنزعات العنصرية المنتشرة في عدد من الدول الغربية.

واسترسل قائلا: “إن كان هناك تطرف ديني في مجتمعاتنا، فإن هناك في مقابله تطرفا علمانيا يحتاج هو أيضا إلى اهتمام وتفكيك ومعالجة، والعلاج الأمثل لكل فكر متطرف هو سلوك المقاربة الفكرية والتربوية التي تعمل على تجنيب الأجيال السقوط في أي فكر متشدد أو متطرف”.

على ماذا ينبني هذا المنهج؟ يجيب العثماني بالقول: “تقوم المدرسة والمناهج التربوية بأدوار مهمة في هذا الباب، من خلال تكريس ثقافة احترام الآخر واحترام الاختلاف في الرأي، وامتلاك ملكة الحوار والنقاش الفكري الهادئ، والتشبع بثقافة الاعتدال والتوازن، كما أن إيجاد نقاش فكري مجتمعي هادئ حول القضايا المثارة والمختلف فيها من شأنه الحيلولة دون انتشار نزعات التطرف”.

وعاد المتحدث ليؤكد أن “الأصل في علاقة المسلمين مع غيرهم هو السلم والتعاون وليس الحرب والتنافر، وهو مبدأ إسلامي مهم، لكن الفكر المتطرف يبني في الغالب على أن الأصل في تلك العلاقة هو الحرب والصراع، وهذا يخلق في المجتمعات متعددة الديانات بذور التوتر والتوجس، وهو من الأمور التي يجب معالجتها بوضوح كامل”.

وماذا عن التطرف المصحوب بالعنف أو ما بات يسمى “التطرف العنيف”؟.. يرد العثماني بأن مواجهة هذا النوع من التطرف أمنيا أمر ضروري، مشيرا إلى أنه “في دولنا وفي مناطق عديدة من العالم الغربي والشرقي، أفرادا أو جماعات من مختلف الملل والديانات، تستعمل العنف ضد خصومها أو لإرباك مجتمعاتها، فهذا لا يمكن الاكتفاء معه بالنقاش والفكر، بل لا بد من استعمال الآليات القانونية والمواجهة الأمنية لحماية المجتمعات من فتنتها”.

وذهب المتحدث إلى أنه “حتى في هذه الحالة لا بد من مقاربة شمولية، لا تركز فقط على الجانب الأمني، ولكن تعتمد أساسا الجوانب الفكرية والتربوية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، ذلك أن سياقات الانغلاق السياسي أو الظلم الاجتماعي تكون غالبا مشجبا للمتبنين للفكر المتطرف، أو أرضية لانتشار التطرف العنيف”.

التصنيف : حوارات ;