الحديث المطلق عن تراجع "الإسلاميين" مُجازفة ومن الصعب أن يحتكر أي طرف الحديث باسم الدين

"هل المغاربة متديّنون؟".. هذا سؤال خارج العادة والمألوف، لكنّه كفيل بإثارة ما يعتقد الكثيرون أنه مسلّمة لا حاجة لأي نقاش حولها؛ حيث يبدو للوهلة الأولى أن الحديث عن درجة تديّن المغاربة ونمط سلوكهم الديني، مجرّد ترفٍ ثقافي. لكن الواقع أن أسئلة الدين والتديّن بالنسبة للأمة المغربية، هي أسئلة الحاضر والمستقبل. كما أن الإجابات التي تضمنتها محاور الملف، هي إجابات تخصّ طبيعة فهم المغاربة لأنفسهم وللعالم من حولهم.

لم يعد التديّن نقاشا فرديا، فقد تداخل هذا الموضوع مع أشدّ القضايا حساسية في المنطقة والعالم. وأصبح فهم المجتمعات للدين يحدد مستقبل الأمن القوميّ، وطبيعة العلاقات بين الشعوب والدول والديانات والثقافات.

إن درجة الانفتاح والتّسامح، أو معدّل الانغلاق والتشدّد، كفيلة بتحديد طبيعة العلاقات بين المغاربة ومحيطهم الإقليمي والعالمي، وكيفية تأثير التديّن المغربي في الثقافة الإنسانية، ومدى مساهمته في بناء الإنسان المتوازن في المنطقة.

إن استكشاف مجال التديّن المغربي لا يتحقق حتما من خلال طرح الأسئلة البسيطة التقليدية والباردة. فمثل هذه الأسئلة كفيلة بأن تجعل الصورة أكثر ضبابية وعتمة، وبلا ملامح واضحة، بالنسبة للأجيال الحالية. لذلك، يمثل هذا الملف الذي جمع نخبة الفكر المغربي: فضيلة العلامة مصطفى بن حمزة، الدكتور كمال القصير، الدكتور حسن أوريد، الدكتور عبد الله بوصوف، الدكتور سعد الدين العثماني، محاولة جرّيئة وجادّة لفهم تديّن المغاربة. ذلك أن عناصره من خلال الحوارات التي تم إجراؤها، تقدم إجابات لا تقلّ جرأة ووضوحا عن الأسئلة المهمة التي تم طرحها.

لا يمكن استكشاف التديّن المغربي من خلال مقاربة واحدة. ولهذا السبب، حرص الملف على تنويع المقاربات من خلال تحقيق التنوع في مشارب الشخصيات التي ساهمت بفكرها ووقتها من أجل إنجازه، وتقديم زبدة أفكارها حول هذا الموضوع، الذي يمثّل حياة المغاربة ونمط عيشهم وتفكيرهم اليومي، ورؤيتهم لماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم.

إن الملف يضمن للقارئ والباحث أن يطلع على إجابات غير تقليدية حول موضوع تديّن المغاربة، وأن يجد نفسه بداخله، معنيا بكل الجزئيات والتفاصيل التي تم النقاش حولها.

وتشير الصورة النهائية إلى أن تديّن المغاربة، يصنعه المغاربة أنفسهم، ويغذّونه بالماضي والتاريخ والتراث، ثم بالحاضر والمستقبل. والمغاربة في كل ذلك، يسعون إلى الحفاظ على نسخة متفرّدة من فهم الإسلام في العالم العربي والإسلامي، كما شيّدها السلطان والعالم والتاجر والإنسان العادي، منذ قرون. لكنها نفس نسخة التديّن المغربي التي تواجه تحديات عالمية ضخمة في مجال المعرفة والقيم، التي تمارس تأثيرها وضغطها على كثير من عناصره، التي تفتقِد إلى الفاعليّة والجاذبيّة وغياب التّجديد.

الدكتور سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة المغربية سابقا، وأحد المفكرين المغاربة..

*كيف تنظرون إلى طبيعة تديّن المغاربة؟

التديّن لدى المغاربة جزء من كينونتهم الجماعية، والمغاربة بمختلف مشاربهم الفكرية، متديّنون بالطبيعة، رغم ما يمكن تسجيله من ملاحظات. وهذه الميزة هي التي جنّبت المغرب عدة مشاكل وتحديات عاشتها مجتمعات أخرى. لذلك، من الصعب أن يحتكر أيّ طرف الحديث باسم الدين، لأن المغاربة كلهم يشتركون في هذا الانتماء.

*ما ردّكم على من يرى أن التديّن يتعارض مع الإقبال على الحياة؟

هذا القول غير صحيح، ولا شيء في الدين يمنع من الإقبال على الحياة، والتمتع بما وهب الله فيها من نعم. ونحن نقرأ في القرآن الكريم: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّـهُ لَكُمْ"، ونقرأ فيه: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق"، وآيات أخرى كثيرة تتضمن ترغيبا في الإقبال على الحياة والاستمتاع بها، والإبداع فيها وتنميتها، كل ذلك في إطار مبادئ الدين وأحكامه، وفي إطار الأخلاق. مع العلم أن الأصل في الدّين هو الإباحة والسّماح والتيسير. ويستطيع المسلم أن يستغني بالمساحات الواسعة من الحلال عن الحرام، وبالمجالات الفسيحة المتنوعة للطاعة عن المعصية. لكن كما هو الشأن بالنسبة لجميع الأديان والمذاهب، قد تكون هناك رؤى متشدّدة. لكنها ليست الأساس، ولا الاتجاه العام في الإسلام.

*هل تديّن مجتمع ما مرتبط بالضّرورة بوجود حركات إسلاميّة فيه؟

هذا سؤال غير دقيق. فبروز المجتمع المدني أو الحركات المدنية يلبّي، عادة، حاجة مجتمعية. قد تُبلي الحكومات والجهات الرسمية جيدا في العناية بشؤون البيئة، لكن هذا لا يغني عن وجود مجتمع مدني يسهم أيضا في هذا المجال. وكذلك في مجال التديّن، لا شكّ أن هناك الكثير من الجهود الرسمية، لكن هناك أيضا العديد من الجهود الشعبية؛ مثل العلماء، والزوايا، والجمعيات، وغيرها، والحركات الإسلامية – مع الإشارة إلى فضفاضية هذا المصطلح – ليست إلا جزءا من هذه الجهود. وهناك قوانين تنظم العمل المدني والجمعوي، وهي تعمل في إطارها.

*في رأيكم، هل تراجع حضور الإسلاميين داخل المجتمع المغربي يعني تراجع مظاهر التديّن داخله؟

"الإسلاميون" - حسب ما أرى - شرائح واسعة في المجتمع، متنوّعة ومتباينة. لذلك، فالحديث عن تراجع حضورهم بهذا الإطلاق، مجازفة. وعلى الرغم من ذلك، فربط تقدّمهم وتراجعهم بتقدّم وتراجع التديّن غير دقيق، ولم يقله أحد.

*إلى أيّ مدى يمكن أن نعتبر أن المؤسسات الدينية الرسمية قادرة على صيانة الأمن الروحي للمغاربة؟

المغاربة استطاعوا أن يبدعوا عبر التاريخ أشكالا معتبرة استطاعت أن تصون الأمن الروحي للمغاربة، وهكذا فقد لعبت الزوايا والرباطات دورا مهما في تأطير الجانب الروحي للمغاربة. كما أن مؤسسة إمارة المؤمنين تعتبر الحجر الأساس في تدبير الشأن الديني، وذات دور فعّال في تحصين الأمن الروحي للمغاربة. ومن هنا، فإنّ ما تقوم به المؤسسات الدينية الرسمية مهمّ جدا في هذا المجال.

*كيف ترون مستقبل التديّن في المغرب؟

اتّفقت عدة تقارير بحثية على رصد ارتفاع وتزايد في مؤشرات الإقبال على التديّن في المجتمع المغربي، وهذه التقارير شملت مختلف الفئات الاجتماعية، وتكاد تتفق على خلاصة كبرى هي: "استمرار تصاعُد الإقبال على التديّن وسَط المجتمع المغربي".

ومن أهم المؤشرات الدّالة في هذا الباب، الإقبال على المنتوج الدعوي في الإعلام، والاطراد الملحوظ في تشييد المساجد، والإقبال على تراويح رمضان، والرغبة الواسعة في الحج والأعداد الكبيرة للمسجلين، وغيرها من المؤشرات التي تدل على تعظيم المغاربة للدّين ولشعائره. لذلك، فأنا متفائل أن المغاربة قد يختلفون في أمورة عدة، لكن مظلّة الدين الواسعة، والحمد لله، تسعنا جميعا وتوحّدنا.