الإيمان والصحة النفسية- الحلقة 6

تحدثنا في الحلقة الماضية عن علاقة الإيمان بالمرض النفسي، وقلنا إن هذا الأخير يصيب المؤمن وغير المؤمن، المتدين وغير المتدين، وأن تأثير الإيمان فيه مثل تأثير الإيمان في المرض العضوي.

لكن الأمر مختلف فيما يخص علاقة الإيمان بالصحة النفسية ودوره في تحسينها. فجميع العوارض والمشكلات النفسية التي لا ترقى إلى مستوى الاضطراب النفسي يمكن للإيمان أن يسهم في التخفيف منها. وكنا سابقا قد ميزنا بين العوارض والمشاكل التي قد تنتاب الصحة النفسية وبين المرض النفسي، وبينا كيف أن الأولى لا تستلزم بالضروة علاجا نفسيا ممنهجا يقوم به طبيب نفسي، لكن كل دعم معنوي أو تغيير في نمط العيش يفيد في تجاوزها. هنا يكون للإيمان دور مهم ومؤثر.

وقد اهتمت كثير من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية بشروط توفير “الحياة الطيبة” و”النفس المطمئنة” و”اطمئنان القلب” و”السكينة” و”طيب النفس” “وقرة العين”، والتوجيهات الواردة فيها توصي بالتوازن في سلوك الإنسان مع نفسه ومع الآخرين، وتحث على التوكل على الله والصبر عند الشدائد والتفاؤل وعدم اليأس وغيرها من الفضائل النفسية التي هي من أسس الصحة النفسية السليمة.

وتثبت كثير من الدراسات أن الإيمان قد يفيد صاحبه في مستويات أربعة على الأقل لها علاقة بالصحة النفسية.

فهو أولا يزيد من طمأنينة القلب وراحة النفس، ويعطي للحياة معنى وهدفا، ويحارب بالتالي الحيرة والشك والارتياب. وهذا من أبواب الرضا والسعادة التي هي أعلى معايير الصحة النفسية.

وهو ثانيا يساعد على التفكير الإيجابي وتجاوز الإحباط واليأس.

وهو ثالثا يعطي قدرات أعلى على التكيف مع مختلف المواقف الضاغطة ومع الواقع الصعب، ويساعد على السيطرة على انفعالات الغيظ والغضب.

وهو رابعا يفتح باب الأمل في الله، ثم في المستقبل.

ويجني الإنسان تلك النتائج على حسب قوة إيمانه وقدرته على الاستفادة منه بصدق التوكل وعمق اليقين، وعلى حسب انتفاء الموانع التي تمنع من الاستفادة من ثمرات الإيمان. فالإيمان يتكامل هنا مع مجمل العوامل الموضوعية – مادية ونفسية – التي تؤدي إلى السعادة والتي يشترك فيها المؤمن وغير المؤمن. وقد يصل غير المؤمن للسعادة لأخذه بهذه العوامل، وقد لا يصل إليها المؤمن لكونه أهمل تلك العوامل الموضوعية المهمة.

وعندما نتحدث عن الإيمان فنحن نتحدث عن الجانب القلبي الوجداني وعن الجانب العملي السلوكي. فقراءة القرآن وذكر الله والدعاء الخاشع ومختلف أعمال الطاعات الفردية والجماعية طلها تفعل فعل الإيمان في تقوية قدرة الإنسان على تحمل المراحل الصعبة وعلى الرقي إلى درجات أعلى من الصحة النفسية.

وعلى مستوى المرض النفسي، فقد قلنا في الحلقة السابقة بأن الإيمان لا يمنعه، فقد وجد دائما مرضى نفسيون في مجتمعات المؤمنين في عهد الأنبياء عليهم السلام. لكننا هنا نضيف بأن الإيمان يمكن أن يكون سندا معنويا كبيرا للمريض النفسي – كما يمكن أن يكون سندا للمريض العضوي –  فيخفف عنه بعض تأثيرات المرض أو يساعده على الشفاء منه أو يسرع من التعافي. لكن ذلك لا يعني بطبيعة الحال الاستغناء عن الأخذ بالأسباب الموضوعية في العلاج.

وأخيرا أختم بكلام لابن قيم الجوزية يتحدث فيه عن تلك الجوعة الموجودة في قلب الإنسان للإيمان، وكونه لن يهدأ حتى يلبيها، فتلك حاجة للنفس كامنة، وهي باب من أبواب الطمأنينة والسعادة في إطار الضوابط والمحددات التي بسطناها. يقول ابن القيم: “في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله. وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله. وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته. وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار إليه. وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه. وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً”.

Catégorie Article : منوعات ;