التوافق الاجتماعي وأهميته في الصحة النفسية (الحلقة 12)

تحدثنا في حلقة سابقة عن أهمية التوافق الذاتي في الصحة النفسية، لكن الواضح أن التوافق الاجتماعي مكمل ضروري للتوافق الذاتي، بل هو المقياس على نجاعته وتأثيره الإيجابي. ومن هنا فهما معياران يتكاملان ولا ينفصل أحدهما عن الآخر، بل يؤثر فيه ويتأثر به.
ونعني بالتوافق الاجتماعي قدرة الفرد على عقد صلات اجتماعية متوازنة وراضية مرضية، يرضى عنها الفرد بنفسه ويرضاها الناس منه. وهو ما يعبر عنه أيضا بالقدرة على التوافق مع البيئة المحيطة وعلى التكيف الناجح الإيجابي معها. وتضم البيئة المحيطة مختلف المجالات الاجتماعية التي يتفاعل معها الفرد وخصوصا الأسرة، والمدرسة أو الجامعة، ومحيط العمل، وجماعات الصداقة وغيرها. وهو يعكس ما يمكن أن نسميه النضج الاجتماعي.
ويضم التوافق الاجتماعي عدة مؤشرات أهمها:
ـ تقبل الآخرين وحسن الظن بهم واحترامهم والإحساس بأفراحهم وآلامهم
ـ التفاعل مع الآخرين والشعور بالراحة والاطمئنان في العلاقة معهم، وهذا يتضمن نوعا من الفاعلية في الاتصال وقدرة على الاندماج في علاقات وثيقة صادقة مع الآخرين. ومن هنا كان اتخاذ الأصدقاء مهما من منظور الصحة النفسية. فالصداقة تتضمن تبادل الأفكار والآراء، وبث الشكاوى وتجاوب المشاعر والرغبات، وبالتالي فإنها تعين على تنظيم شخصية الفرد وتدقيق تصوره لذاته. ويعتبر انعدام الأصدقاء أو العجز التام عن المحافظة عليهم علامة من علامات سوء التوافق الاجتماعي خاصة في مرحلتي المراهقة والشباب
ـ القدرة على إظهار مشاعر الحب والود نحو الآخرين، والشعور بالسعادة معهم، وعدم التردد في تقديم المساندة والمساعدة لهم،
ـ القدرة على التقييم الإيجابي لأداء الآخرين وتعزيزه دون إشعارهم بالضعف أو الدونية، أو إظهار التفوق عليهم
ـ القدرة على الأخذ والعطاء في إطار من الألفة أو من التنافس الشريف. ومن علامات ذلك الاشتراك مع الناس في أنشطة اجتماعية وعدم الانعزال عنهم. وهي أنشطة ذات دلالات وفوائد متعددة. فهي إذ تشكل مؤشرا على توافق اجتماعي سليم، فإنها في الوقت ذاته تشبع حاجة ماسة لدى الفرد لإرضاء حاجاته التي لا يستطيع إرضاءها بمجهوده الخاص، وذلك مثل الشعور بالأمن والاحترام، كما تصحح كثيرا من الأفكار والتصورات غير السليمة عن نفسه وعن الواقع من حوله. فالتفاعل مع الآخرين يعين الفرد على اكتشاف ذاته أكثر، والتعرف على قدراته، واكتشاف إمكاناته الخفية أو المهملة. إن هذا المؤشر يعني في النهاية أهمية قدرة الإنسان على العطاء والإنجاز والمبادرة بدل السكون والانتظارية، أي أن الصحة النفسية حالة ديناميكية متحركة، والتحقق بها لا يعني توقفا عند حد أو نهاية، بل تطورا مستمرا نحو الأحسن
ـ تقبل نقائص الآخرين والتعامل معهم كما هم وتحمل ما يستلزم ذلك من سعة صدر ومرونة
ـ القدرة على التحلي بمستوى معين من المسؤولية والالتزام، بما يعني ذلك من التزام بأخلاقيات المجتمع واحترام للمعايير الاجتماعية السائدة، أو سلوك الأساليب المرنة والسلسة لتعديلها.
لكن ما هي أهم التطبيقات العملية للوعي بمعيار التفاعل الاجتماعي؟
أولا إن التربية على حسن التوافق الاجتماعي يتم في الطفولة. فبشعور الطفل بالحب وحميمية العلاقات وبوجود جو اللعب والتفاعل مع الأقران يشبع حاجته الاجتماعية ويطورها.
ثانيا يجد سوء التوافق الاجتماعي تمظهرات عديدة في الحياة اليومية. وذلك مثل حالات التخوف من مواجهة الآخرين والحوار المفتوح معهم، أو الإحساس بالتردد والاضطراب أو بالقلق في بعض المواقف الاجتماعية مثل مواقف الخطابة أمام مجموعة من الناس أو المواجهة مع آخرين. وهنا يشعر الفرد باحمرار الوجه وتصبب العرق والتعثر في الكلام، ويلجأ في كثير من الأحيان إلى آليات المواجهة التقليدية وخصوصا الانسحاب والهروب حتى لا يجد نفسه في الموقف الاجتماعي المسبب للقلق.
ثالثا يعد حسن التوافق الاجتماعي أكبر معين على إشاعة وضع اجتماعي يتجسد فيه التآلف والمودة ونمو علاقات صحية بين الناس. وبذلك تتعزز سلوكيات السلم والتفاهم وتتراجع سلوكيات الصراع والعنف. وكل ذلك من أسس متانة البناء الاجتماعي حيث يضحي الفرد لمصلحة الجماعة، وتتقوى قيم التضحية بمفهومها الإيجابي الواسع. فنجد الطبيب الذي يضحي من أجل إنقاذ حياة أو صحة شخص لا يعرفه ولا تربطه به صلة. ونجد الشرطي الذي يبذل راحته وربما حياته من أجل إنقاذ مواطن من اعتداء أو كارثة، بغض النظر عن دينه أو قوميته، أو لونه أو توجهه السياسي أو المذهبي أو غيره. كما نجد نماذج أخرى لإسداء خدمة أو مساعدة دون انتظار أي مقابل.

Catégorie Article : منوعات ;