في تصنيف الأمراض النفسية

يتساءل كثير من المواطنين عن الطريقة التي يسلكها الطبيب لتشخيص الحالات النفسية التي تعرض عليه، وكيف يتعرف عليها. لقد كان الأطباء دائما، ومنذ قرون طويلة يبنون تعرفهم على المرض – أي مرض – على “أعراض” الحالة المرضية، وهي العلامات التي تظهر على المريض، وباجتماع عدد من الأعراض يجتهدون ويقررون نوع المرض الذي أمامهم. وهذا ما يسمى بعملية “التشخيص”.
وتحديد التشخيص ليس عملية نمطية سهلة، بل هو جهد ديناميكي تكييفي، يأخذ بعين الاعتبار حالة كل فرد (مريض) في وقت معين، بخصوصياته. فلا أحد يشبه الآخرين في كل شيء. وتتم عملية التشخيص انطلاقا من تصنيف مرجعي للأمراض، يسهل التفاهم بين المتخصصين.
ومن المهم أن نعرف أنه لم يكن هناك في النصف الأول من القرن العشرين في مجال الطب النفسي تصنيف للأمراض، موحد ومتفق عليه عالميا. ومنذ سنة 1950، قدمت الجمعية الأميركية للأطباء النفسانيين تصنيفا خاصا بالأمراض النفسية يسمى الدليل التشخيصي الإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM). وطور في طبعات متتالية إلى أن أصبح معتمدا عبر العالم بوصفه دليلا مرجعيا في تشخيص الأمراض النفسية من قبل الأطباء والباحثين وشركات التأمين وشركات الأدوية.
وفي أفق إصدار الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس (DSM 5) أعد تقييم غير مسبوق تضمن سلسلة من الأوراق و13 مؤتمرا علميا برعاية المعاهد الوطنية للصحة. جمع هذا الإعداد ما يقرب من 400 عالم دولي وأنتج سلسلة من الدراسات والمقالات التي تمت مراجعتها من قبل أطباء نفسيين آخرين. كما قامت مجموعات عمل خاصة تتكون من خبراء بالمراجعة العلمية وتدقيق النسخة النهائية التي صدرت سنة 2013.
ثم صدر تصنيف آخر هو: التصنيف العالمي الخاص بالأمراض النفسية ((ICD والذي أعدته المنظمة العالمية للصحة. وأضحى معتمدا في طبعاته المختلفة، وآخرها صدرت سنة 2000. وبذلت جهود متتالية للتقريب بين التصنيفين في المنهجية والمضمون، بحيث يكونان في الغالب قابلان للمقارنة، والمرور من أحدهما إلى لآخر. وتتم مراجعة معايير التشخيص وتحديثها مع كل إصدار جديد للتصنيفين.

 

وقد تضمن تصنيف منظمة الصحة العالمية عرضا مفصلاً لما يزيد على 300 اضطراب من الاضطرابات النفسية والسلوكية، مع تقديم أهم أوصافها السريرية إلى جانب دلائل إرشادية تساعد على تشخيصها. كما يتضمن تفصيلا حول أعراضها وعلاماتها الرئيسية إلى جانب بعض الملامح الهامة التي ترافقها، وإن كانت أقل دلالة عليها.
وقد أظهرت دراسة مسحية واسعة أن أغلب الأطباء النفسيين والباحثين في مجال الطب النفسي في عشرات من دول العالم يستعملون اليوم أحد هذين التصنيفين في ممارستهم اليومية.
وتظهر أهمية التصنيفين في كونهما يعتمدان على معايير تشخيصية محددة وأعراض دقيقة، وفي كثير من الأحيان يشيران إلى عدد الأعراض الضرورية وإلى التوازن المطلوب بينها حتى يستطيع المتخصصون والباحثون عبر القارات الخمس أن يحددوا تشخيصا ذا صدقية ووثوقية. وحيثما كانوا يمكنهم فعل ذلك بطريقة متقارية، ويمكنهم التفاهم بدرجة كبيرة وبشكل غير مسبوق في التاريخ. فلأول مرة في تاريخ الطب يمكن لأطباء من اليابان ومن المغرب ومن جنوب إفريقيا ومن غيرها من البلدان – مثلا – التفاهم والتواصل بسهولة حول تشخيص حالة معينة انطلاقا من تلك المعايير.
وسنقف في الحلقة المقبلة على عرض مبسط لأنواع الاضطرابات النفسية في تصنيف منظمة الصحة العالمية.