من التساؤلات التي تتردد كثيرا لدى الناس تلك التي تتعلق بخطورة المرض النفسي وتكوين ردود فعل الذعر والفزع منه. وهذا مبني على تصورات سائدة في عدد من المجتمعات، ترتبط بصور نمطية غير سليمة عن المرض النفسي والمصابين به.
لا شك أن كل مرض نفسي أو عضوي يشكل ألما وعبئا على المريض وأسرته، لكن هذا لا يعني أن كل مرض نفسي يشكل خطورة أكثر من الأمراض العضوية التي نتعايش معها باستمرار. وهذا يتبين بتوضيح ثلاثة مستويات.
المستوى الأول هو أنه إذا كان عدد الأشخاص الذين يعانون من مرض نفسي واحد على الأقل، يقارب مليار شخص حول العالم، فإن هذه الأمراض ليست كلها متشابهة. إنها أنواع وأصناف، يصل عددها إلى الأربعمئة تقريبا حسب آخر التصنيفات الطبية. وكما أن الأمراض العضوية تختلف من حيث تأثيراتها وصعوبات معالجتها، فكذلك الأمراض النفسية تتفاوت. ومن هنا فتعميم الخطورة عليها غير صحيح علميا وواقعيا. وقد أوضحنا في حلقة سابقة أن من تلك الأمراض النفسية أمراض حادة، تصيب الشخص ثم تختفي تلقائيا أو بعد العلاج، في فترة قصيرة أو بعد مدة. ومنها أيضا أمراض مزمنة يمكن أن يتعايش معها الإنسان في الغالب، ويتأقلم معها أداؤه الأسري والدراسي والمهني.
وفي المستوى الثاني فإن جميع الأمراض النفسية تختلف حدتها، ما بين خفيفة ومتوسطة وشديدة. وأكثر الحالات تكون أعراضها إما خفيفة أو متوسطة. وهذا يجعل الأمل في الشفاء منها أو في تحسنها كبيرا، أو على الأقل يجعل الأمل في الحصول على التوازن والاستقرار في أعراض تلك الحالات التي تشكل الأغلب، ممكن جدا.
وفي المستوى الثالث شهدت المعرفة الطبية النفسية في العقود الأخيرة تطورات هائلة، مما يسهل تشخيص أغلب حالات تلك الأمراض، ومما يمكن من وصف العلاجات المناسبة، وبالتالي مساعدة المريض على بناء حياته مجددا أو تحسين شروطها. فقد بينت الإحصائيات مثلا أن 65 بالمئة من مرضى الفصام يتحسنون – كثيرا أو بصورة متوسطة – بفضل العلاجات المتوفرة. ونسبة التحسن لدى المصابين بالاكتئاب واضطرابات القلق – كثيرا أو قليلا – قد يصل إلى 80 بالمئة من الحالات.
هذه المستويات الثلاثة تبين أن أغلب حالات الأمراض النفسية ليست خطيرة، وإن كانت مؤثرة على حياة المصاب على مستوى من المستويات.
وهناك مع الأسف تضخيم لكثير من الأمراض النفسية البسيطة والقابلة للعلاج والتحسن، مما يستلزم التزود من قبل الجميع بمعلوماتٍ دقيقة عن أي حالة، والرجوع إلى الأطباء والمتخصصين في ذلك.
وذلك التضخيم يقود إلى سلوكات تمييزية ضد هؤلاء المرضى. فمثلا كثيرون يتحرجون من الإدلاء بشهادة طبية برخصة مرضية من طبيب نفساني، لأن ذلك سيجعل أرباب عملهم أو زملاءهم ينظرون إليه على أنهم “مرضى نفسانيين”، وقد يتعرضون للتهميش في العمل ولممارسات سلبية تمييزية أخرى. والحاصل أن الرخصة المرضية بسبب اكتئاب خفيف أو متوسط مثلا، سرعان ما يشفى صاحبه بعد العلاج، أخف تأثيرا من كثير من الأمراض العضوية المنهكة للجسم والمؤثرة في الأداء المهني أو الدراسي.
صحيح أن هناك أمراض نفسية تؤثر كثيرا في القدرات العقلية والنفسية لأصحابها، وتؤدي أحيانا إلى إعاقات دائمة، لكنها ليست أكثر الأمراض النفسية انتشارا من جهة، وليست كل أصنافها تؤدي إلى تلك الإعاقات، والإمكانات العلاجية اليوم قد حسنت حتى هذه الأمراض بشكل ملحوظ.
الخلاصة التي نريد أن ننتهي إليها هي أن الأمراض النفسية أغلبها لا يشكل خطورة كبيرة، وإن كان بطبيعة الحال مؤثرا على الصحة وجودة الحياة، وعلى الأداء والمردودية. وسنتوقف في الحلقة المقبلة إن شاء الله عند تخوف آخر سائد في بعض الأوساط، وهو توهم خطورة المريض النفسي : ما حقيقته؟ وما هي حدوده؟
Catégorie Article : منوعات ;