تطرقنا في حلقات سابقة إلى ماهية الاكتئاب وأنواعه. ويهمنا في هذه الحلقة أن نركز على قلة الوعي بتأثيراته على الحياة الفردية والجماعية.
وقد قلنا من قبل بأن الإحصائيات تثبت أن الاضطراب الاكتئابي منتشر أكثر مما يظن الكثيرون. فهو يصيب ما بين 13 إلى 20 % من السكان الذي تتراوح أعمارهم بين 15 و 75 عاما، في مرحلة ما من حياتهم، منهم 7% تقريبا يعانون من حالة اكتئاب شديدة. ويعني ذلك أنه يوجد بالمغرب حوالي أربعة ملايين ونصف من الأشخاص المصابين بالاكتئاب بمختلف أنواعه في مرحلة من مراحل حياتهم. وهذا يجعل الاكتئاب من أكثر الأمراض النفسية شيوعا، وواحدة من المشاكل الصحية العامة.
ومن الضروري الإشارة إلى أن الاكتئاب يمكن أن يصيب أي شخص، ولو لم تكن عنده صعوبات أو ضغوط أو مشاكل في حياته. لكن هذه المشاكل إن وجدت، تسهل بطبيعة الحال ظهوره أو تعقد أعراضه وتؤثر على تطوره.
وتأثيرات الاكتئاب على الفرد المصاب وحياته اليومية وعلاقاته كبيرة وتحتاج إلى وعي وانتباه.
فالمستوى الأول هو المستوى الفردي، حيث يسبب الاكتئاب ألما نفسيا تختلف حدته حسب الحالة. كما يؤثر على قدرته على القيام حتى بأبسط مهامه اليومية، وربما يؤثر على وفائه بحاجياته العادية. ويفقد المصاب القدرة على الاستمتاع بما كان يستمتع به عادة من أعمال. وللاكتئاب تأثيرات على الصحة العضوية أيضا، تبدأ من اضطرابات النوم واضطرابات الجهاز الهضمي والصداع ونقص الرغبة الجنسية ومختلف الآلام في العضلات والمفاصل، إلى رفع خطر الإصابة بمختلف حالات الالتهاب. وإذا كان المصاب يعاني أصلا من أمراض أخرى مثل السكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب، فإن الاكتئاب قد يؤثر سلبا على علاجها وتطورها.
المستوى الثاني لتأثير الاكتئاب هو مستوى الأسرة. وأول التأثيرات في هذا المستوى تنتج عن سلوك الانعزال والانسحاب الذي يبدأ مع بروز الاكتئاب، وهو ما يؤدي إلى ردود فعل من أفراد الأسرة الآخرين بسبب سوء الفهم. فقد يفسرون ذلك بالإهمال أو التكاسل أو التعالي، مما يربك العلاقات داخل الأسرة. وأحيانا تميل أعراض الاكتئاب أكثر إلى القلق والغضب لأتفه الأسباب، وإثارة النزاعات غير المبررة، وهو ما يؤدي أيضا إلى ردود فعل مماثلة من أفراد الأسرة. والنوع الثالث من الأعراض المؤذية هو استيلاء الأفكار السلبية والمتشائمة على المصاب، وهو ما يؤثر على الجو العام داخل الأسرة ويلحق الأذى بالعلاقات بين أفرادها.
وقد رأينا في الواقع أمثلة كثيرة لأسر عاشت دوامة مشاكل مدمرة لسنوات، انتهت أحيانا بالطلاق، ولم تكن بدايتها إلا حالة اكتئاب أصيب بها أحد أفرادها، لم تفهم، ولم تشخص، ولم تعالج في الوقت المناسب.
المستوى الثالث لتأثير الاكتئاب هو المستوى الاجتماعي. ونعني به التأثير على علاقات المصاب بمحيطه الاجتماعي العام، من أقارب وأصدقاء. ويكون ذلك بنفس الديناميات الثلاث التي أوردناها في تأثير الاكتئاب على مستوى الأسرة. فهناك أولا الانعزال، وهو السمة الأكثر بروزا في الاضطراب الاكتئابي، ويؤدي إلى فصم العلاقات وتراجع المشاركة في الأنشطة الاجتماعية. وهناك ثانيا الحالة المزاجية المتسمة بالتوتر والغضب وردود الفعل غير الموزونة والتي تنفر الأصدقاء، وتجعلهم ينظرون إليه بوصفه شخصا صعب الطباع، صعب المعاشرة والتعامل. وهناك ثالثا برود المشاعر، بحيث يضعف أو ينعدم تعاطفه مع من حوله في أحزانهم أو في أفراحهم. ويجب أن نشير إلى أن هذه التأثيرات تبرز في وقت يكون فيه المصاب بالاكتئاب أحوج ما يكون إلى من يفهمه ويدعمه نفسيا. لكن سوء فهم مرض الاكتئاب في المجتمع كثيرا ما يمنع من ذلك مع الأسف الشديد.
المستوى الرابع لتأثير الاكتئاب هو مستوى العمل المهني. فهو يؤثر تأثيرا كبيرا على قدرة المصاب على الوفاء بالتزاماته المهنية وعلى الفاعلية في أدائه. وقد يظهر عليه البطء في العمل وكثرة الأخطاء ونقص التركيز وكثرة النسيان والتأخر عن العمل وعن الاجتماعات المهنية. وأحيانا يكون عصبيا كثير الشجار مع زملائه. وقد وضعت منظمة الصحة العالمية الاكتئاب على رأس الأمراض الأكثر تسببا على المستوى العالمي في العجز والتغيب عن العمل، وأحيانا يؤدي إلى فقدانه.
المستوى الخامس وهو الأكثر خطورة، هو التفكير في الانتحار، وربما الإقدام عليه. فإن الاكتئاب بسبب فقدان الشغف في الحياة، وأحيانا بسبب الشعور بالرفض التام لها، يولد لدى المريض فكرة الموت والتخلص من الحياة. وتشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية إلى أن الاكتئاب هو سبب رئيسي للانتحار، الذي يحصد أرواح حوالي ثمانمائة ألف شخص كل عام، أي بمعدل ثلاث وفيات كل ساعتين. وتعتبر محاولة الانتحار أو وجود أفكار انتحارية من الطوارئ النفسية التي تتطلب التدخل المستعجل لتفادي الأسوء. والأولى دائما بطبيعة الحال علاج الاكتئاب في مراحله الأولى قبل ظهور هذه الأفكار الانتحارية.
التصنيف : منوعات ;