من المعروف أن الاضطرابات (أو الأمراض) النفسية لا تؤثر فقط على حياة من يعانون منها، ولكن تؤثر أيضا على حياة أسرهم والمحيطين بهم. وفي كثير من الأحيان تؤدي إلى اضطرابات مؤثرة في الحياة اليومية للأسرة والأقارب.
تحدثنا في حلقة سابقة عن أهمية التوافق الذاتي في الصحة النفسية، لكن الواضح أن التوافق الاجتماعي مكمل ضروري للتوافق الذاتي، بل هو المقياس على نجاعته وتأثيره الإيجابي. ومن هنا فهما معياران يتكاملان ولا ينفصل أحدهما عن الآخر، بل يؤثر فيه ويتأثر به.
من معايير الصحة النفسية تمتع الفرد بالقدرة على الصبر والتحمل. ويتمثل ذلك في قدرته على ضبط نفسه والصمود أمام الأزمات والشدائد وضروب الإحباط، وتحملها دون جزع، وتجاوز تأثيراتها. ويتميز هذا المعيار بأهمية خاصة في عالم اليوم بسبب كثرة الضغوط النفسية والاجتماعية المرتبطة بالحياة العصرية المتسمة بالتحولات السريعة في أنماط الحياة والمؤثرة على صحة الإنسان سواء الجسدية منها أو النفسية.
يعتبر الشعور بالسعادة أعلى معايير الصحة النفسية، بل هو هدف أسمى لكل إنسان على الأرض وإن اختلفت طرق كل واحد إليها، وخصوصا في عصرنا الذي يتسم بالقلق النفسي والذي أصبح فيه الشعور بالاستقرار النفسي لدى الكثيرين مثل السراب يلهثون وراءه دون طائل ولا فائدة. كما أن سرعة تطور الحياة العصرية وتعقد سبل العيش وبذل الإنسان الجهد المضني خوفا من التخلف عن ذلك التطور المتسارع، مع الضعف الذي دب في النسيج الاجتماعي وتراجع العلاقات الاجتماعية الحميمية، كل ذلك جعل الفرد يفقد في الغالب الشعور بالأمان والطمأنينة على مستقبله.
تتميز الحياة بكثرة التغيرات والتحولات التي تشكل ضغوطا على الإنسان الذي يلجأ إلى التأقلم والتكيف معها. فمثلا قد تتغير الظروف داخل الأسرة، وقد تتغير ظروف العمل وتتوتر العلاقات الاجتماعية وتتعقد الظروف الاقتصادية، وقد تصاب صحة الإنسان بالوعكة أو بالمرض. وتشكل هذه التغيرات ضغوطا على الإنسان الذي يلجأ إلى التأقلم معها فيعدل سلوكه. ومن الأمثلة على ذلك تغيير الإنسان للباسه حسب برودة الجو أو سخونته. وتسمى هذه العملية بالتكيف.
تحدثنا في الحلقة الماضية عن علاقة الإيمان بالمرض النفسي، وقلنا إن هذا الأخير يصيب المؤمن وغير المؤمن، المتدين وغير المتدين، وأن تأثير الإيمان فيه مثل تأثير الإيمان في المرض العضوي.
يتساءل بعض القراء عن دور الإيمان في الوقاية من المرض النفسي وفي علاجه. وبعضهم يخلط بين المرض النفسي وبين مرض النفوس ذي الطابع الديني والأخلاقي، وآخرون يعتبرون الإيمان كافيا للوقاية من المرض النفسي، وأن الإصابة بهذا الأخير دليل على ضعف الإيمان.
تنتشر كثير من المفاهيم الغامضة وغير الدقيقة عن المرض النفسي، فيحاط لدى كثير من الناس بالتخوف، وأحيانا بالعار أو بالخرافة، وينظر إليه في حالات كثيرة نظرة سلبية أو دونية، مما يجعل كثيرا من المصابين بالاضطرابات النفسية يعزفون عن استشارة جهة طبية مختصة أو يترددون عن طلب العلاج، وهذا بدوره يؤدي إلى بقاء المرض واستفحاله. ويحدث هذا مع الأسف في وقت تطورت فيه المعرفة العلمية بالأمراض النفسية بشكل غير مسبوق، وأصبحت أسبابها وتفاعلاتها معروفة أكثر من ذي قبل. كما أنها أضحت اليوم في الغالب قابلة للعلاج، أو على أقل تقدير قابلة للتحسن.
يخلط كثير من الناس بين الصحة النفسية والطب النفسي، ويعتبرونهما شيئا واحدا، وفي كثير من الأحيان يربطون هذا الأخير بعلاج بعض الاضطرابات النفسية الشديدة، لكن الصحيح أن المفهومين متداخلان وبينهما العديد من الفروق. فيمكن أن يكون الفرد خاليا من المرض النفسي، لكنه ليس بصحة نفسية جيدة عندما تكون عنده صعوبات في مواجهة تحديات حياته، فيكثر عنده الارتباك والقلق والإحباط مثلا، بينما يمكن أن يصاب الإنسان بمرض نفسي، ويكون ذا صحة نفسية جيدة، إذا سلك أساليب العلاج أو التحكم في المرض المعني، وتفاعل مع وضعه بما يكسبه الرضا والسعادة.