يعتبر الشعور بالسعادة أعلى معايير الصحة النفسية، بل هو هدف أسمى لكل إنسان على الأرض وإن اختلفت طرق كل واحد إليها، وخصوصا في عصرنا الذي يتسم بالقلق النفسي والذي أصبح فيه الشعور بالاستقرار النفسي لدى الكثيرين مثل السراب يلهثون وراءه دون طائل ولا فائدة. كما أن سرعة تطور الحياة العصرية وتعقد سبل العيش وبذل الإنسان الجهد المضني خوفا من التخلف عن ذلك التطور المتسارع، مع الضعف الذي دب في النسيج الاجتماعي وتراجع العلاقات الاجتماعية الحميمية، كل ذلك جعل الفرد يفقد في الغالب الشعور بالأمان والطمأنينة على مستقبله.
وقد أنتجت هذه الوضعية شيوع حالات التوتر النفسي المزمن، وما ينتج عنه من مضاعفات سلبية ليس فقط على صحة الفرد النفسية، وإنما أيضا على صحته العضوية. فكثرت الأوجاع والآلام التي أثبتت الدراسات الحديثة علاقتها المباشرة بعدم توفر الراحة النفسية أو بالاضطرابات النفسية. ومن الواضح أن لهذا الأمر تأثير مباشر على استقرار المجتمع وتطوره. ومن علامات قلة تمتع الإنسان المعاصر بالسعادة النفسية الازدياد المطرد لاستهلاك الأدوية المهدئة وإدمان التدخين والكحول والمخدرات وازدياد العنف الاجتماعي والمهني والأسري وكثرة الشكاوى النفسية وغيرها.
وتعرف السعادة بأنها حالة من الرضا التام، تتميز بالاستقرار والمتانة. وهذا يعني أنها ليست حالة عابرة من الرضا، بسبب أحداث عابرة، بل هي في الحقيقة نتيجة لتوفر المرء على حد معقول من معايير الصحة النفسية الأخرى. فلا يمكن للفرد أن يكون سعيدا وراضيا، إلاّ إذا كان متوافقا مع ذاته، غير كاره لها ولا نافر منها، وكان متمثلا بحد أدنى من التوافق الاجتماعي، ولديه حد معقول من القدرة على مواجهة الأزمات والصعوبات التي يمر بها.
والسعادة مراتب ومستويات يأخذ منها كل فرد بنصيب على حسب ما يسر الله له. وتوفرها لدى الفرد يسبغ على حياته شعورا عميقا بالرضا والبهجة والاستمتاع، وحالة من الراحة الجسمية والنفسية والاجتماعية، والفرح حتى للأشياء والأحداث البسيطة.
وقد حاول الباحثون الغوص في عمق النفس البشرية بغية اكتشاف الموجهات التي تهدي إلى المعينات على الشعور بالسعادة، والعلامات التي يمكن للفرد التعرف عليها ورعايتها للوصول إليها. ويمكن اختصار بعضها فيما يلي:
ـ التمتع بصحة عضوية مقبولة، والتوفر على حيوية جسمية تجعل الفرد بعيدا عن الخمول والعجز
ـ القدرة على الشعور بالمتعة في حياته مع إغفال عوامل التعاسة التي يتعرض لها
ـ الشعور بالسعادة مع الآخرين والاستمتاع بالعلاقة معهم. ويتضمن ذلك حب الآخرين والثقة بهم واحترامهم، وتكوين علاقات مرضية معهم.
ـ التفاؤل المستمر بالمستقبل وتوقع الخير باستمرار ومباشرة التخطيط من أجل وضع أفضل.
ـ الشعور بالمتعة الداخلية في إتمام الأعمال أو المسؤوليات التي تناط به على أكمل وجه، وبذل أقصى جهده لتحقيق هذه المهام والمسؤوليات بأفضل صورة ممكنة.
ـ الإقبال على الحياة والإحساس بالرضا والأمن فيها.
ـ التوفر على “حياة روحية” وأداء العبادات الدينية وإعطاء الوقت الكافي لذلك.
ومع أهمية الاستقرار المادي والكفاية المالية في السعادة، إلا أنهما وحدهما لا يكفيان إذا كان معيار التكيف النفسي أو التكيف الاجتماعي منهاران أو ناقصان. لذلك تشير الدراسات إلى أن “كيمياء” السعادة تدمج صحة عضوية جيدة ودخلا ماديا كافيا وعلاقات عاطفية مستقرة ووجود أهداف في حياة الإنسان وقدرته على تحقيق قدر معقول منها.
لكن الدراسات الميدانية بينت أيضا أن ارتفاع مستوى العيش لا يؤدي بالضرورة إلى السعادة. ومع الأسف هناك كثيرون يخلطون بين السعادة والتمتع بالراحة النفسية من جهة والتوفر على المال والإمكانات والرفاهية المادية من جهة أخرى. والصحيح أن البحث عن السعادة لم يحتج في يوم من الأيام إلى إمكانات أو مداخل مادية كبيرة، لأن السعادة حالة نفسية وحقيقة شخصية.
وكل واحد منا له استعداد لتنمية السعادة في نفسه، بالوضع الذي هو فيه، علم ذلك أو لم يعلم. لكن ما تدل عليها العديد من الدراسات الميدانية الحديثة هي أن العوامل الأكثر تأثيرا بصورة إيجابية والأكثر عونا على السعادة هي توفر التضامن الاجتماعي وشيوع الثقة في المجتمع واستقرار الأسرة. وبالتالي فيمكن الحديث عن أمور مثل الأسرة والحب والإيمان بوصفها قيما ثابتة في بناء السعادة في حياة الإنسان.
التصنيف : منوعات ;